لكي نتحدث عن الخط العربي وكتابته فعلينا اولًا الحديث عن الكتابة بشكل عام وهي الأثر الذي يتركه الخط على المادة كالرخام والخشب والحجر والنسيج وغيرها، وتنقسم الكتابة الى نوعين
الكتابة ببساطة هي التعبير الخطي عن اللغة ووسيلة الاحتفاظ بالكلمات المنطوقة واقسم الله سبحانه وتعالى في قوله (ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) وقال ايضًا في اول سورة أُنزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
لا شك ان اللغة تسبق الكتابة بمراحل طويلة، فبالبحث في الروايات المختصة بنشأة اللغة العربية، وجدنا انها تعد من اقدم اللغات السامية، وذلك لأنها تحتوي على مفردات وعناصر قديمة جدًا فاوائل الكتابات العربية تعود الى القرون الميلادية الأولى.
أما عن كيف نشأت الكتابة العربية فقد تعددت الأقاويل والآراء في ذلك بين القدماء والمحدثون ولم تستقر على رأي محدد، وكما ذكر درنكير Diringer:
"يبقى أصل الكتابة العربية الدقيق وتاريخها المبكر غامضا"
أي ان الخط توقيف والهام من عند الله وليس من صنع البشر، فقد علمه الله لآدم عليه السلام (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ) وكتب آدم عليه السلام الكتب كلها، أي ان الكتابة هبة من عند الله لبني الإنسان والهام وتوقيف.
وروي ان اول من كتب الكتاب العربي والسرياني وجميع الكتب هو آدم عليه السلام قبل موته بثلاثمائة سنة، كتبها في الطين وطبخه ثم اصاب الأرض الغرق فلما انحسر عنها الماء وجد كل قوم الكتابة التي يكتبون بها، وأصاب اسماعيل عليه السلام الكتاب او اللسان العربي، لذلك يقول ابن عباس ان اول من وضع الكتاب العربي على لفظه ونطقه هو اسماعيل عليه السلام.
قيل ان النبي ادريس عليه السلام وأولاده هم اول من كتب بعد آدم عليه السلام، وانه عُلم عدة خطوط وامر بجمع المصاحف، وان اسماعيل بن ابراهيم هو اول من وضع الكتابة العربية، وقيل أيضًا ان اول من وضع الخط هم نفيس ونصر وتيما بنو اسماعيل ووضعوه متصل الحروف.
واستدل اصحاب نظرية التوقيف أيضًا بقوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
يتضح من عرض هذه النظرية انها تعتمد بالكامل على تفسير الآيات القرآنية السابقة ولا يوجد حقيقة علمية ثابتة وعلى الاغلب فإن ذلك للتوفيق بينها وبين النظرية العربية الشائعة في ذلك الزمان بأن اسماعيل عليه السلام هو ابو العرب المستعربة.
بجانب نظرية التوقيف جاءت نظرية اخرى مفادها ان الخط اختراع، واختلف فيمن اخترع الكتابة العربية، بعض المصادر نسبت ذلك الى جماعة معينة وفي روايات اخرى نُسب الى افراد، وقدرت مصادر ثالثة ان الكتابة العربية مشتقة من كتابات اخرى قديمة.
انتشر عند العرب ان الخط العربي مشتق من الخط المسند الحِمَيري وسمي بالجزم لأنه جزم او اقتطع منه. وقيل انه عندما سُئل اهل الحيرة من اين تعلموا الخط العربي قالوا من اهل الأنبار، فمن أين تعلمها اهل الأنبار فقالوا من اليمن.
لا يوجد لدى اصحاب هذه النظرية دليل ثابت، فليس هناك علاقة واضحة بين خطوط حِميَر في اليمن والخط العربي الذي نكتب به اليوم، ولكن قد يكون منشأ هذه النظرية ان اليمن قد فرضت حكمها السياسي على بعض الأمم العربية في الشمال في وقت حكم سبأ وحِميَر.
يرى ابن خلدون ان الخط العربي بلغ في اليمن، تحديدًا في دولة التبابعة، مبلغًا من الإحكام والجودة والإتقان حينما بلغت دولتهم مبلغًا عظيمًا من الحضارة والترف، ويرى أيضًا ان الخط انتقل من اليمن الى الحيرة لما كان بها من دولة آل منذر مجددي ملك العرب في العراق ونسباء التبابعة اليمنيين في العصبية.
ونجد اعتراف ابن خلدون في موضع آخر في كلامه عن الخط المسند انه خط منفصل الحروفـ، وليفصل الكاتب بين الكلمات يستعمل خطوطًا عامودية مستقيمة، على خلاف الخط العربي الذي انتهى الى قريش.
كما يوجد اختلاف في اشكال الحروف - عدا حرف الراء - وكذلك اتجاه الكتابة في الخط المسند لم يقتصر على جهة واحدة كالخط العربي – من اليمين لليسار – بل العكس، وقد يمزج الكاتب ايضًا بين الطريقتين.
وقد يكون السبب في ربط الخط العربي الشمالي بالخط المسند الحِميَري ان بعض الأمم الشمالية قد اشتقت منه خطوطًا للكتابة، مثل الخط الصفوي والثمودي واللحياني المشتقة من الخط المسند.
يذكر هذه النظرية عدد من المؤرخين العرب واشهرهم البلاذري الذي يروي عن ابن عباس بن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن جده وعن الشرقي بن القطامي ان ثلاثة من طيئ بيقة – وهو موقع قريب من الأنبار في سقى الفرات – وهم:
مرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة قد قاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، وقد تعلمه منهم قوم من اهل الأنبار ثم تعلم عنهم نفر من اهل الحيرة، يقول:
وكان بشر بن عبد الملك أخو أكيدر صاحب دومة الجندل ، يأتى الحيرة فيقيم بها الحين ، فتعلم الخط العربى من أهلها ، ثم اتى مكة في بعض شأنه ، فراه سفيان بن أمية بن عبد شمس وأبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلام يكتب ، فسألاه أن يعلمهما الخط فعلمهما الهجاء ، ثم أراهما الخط فكتبا ، ثم أتى بشر وسفيان وأبو قيس الطائف في تجارة يصحبهم غيلان بن سلمة الثقفى ، وكان قد تعلم الخط منهم ، فتعلم الخط منهم نفر من أهل الطائف . ثم مضى بشر إلى ديار مضر ، فتعلم الخط منه نفر منهم ، ثم رحل إلى الشام فتعلم الخط منه ناس هناك
وبذلك عرف الخط - بتأثير الثلاثة الطائيين - عدد لا يحصى من الخلق في العراق والحجاز وديار مضر والشام.
تشرح لنا هذه النظرية كيف وصلت الكتابة الى الحجاز من اقليم الحيرة لأن خط العرب الشماليين انتهى في وقت ما – كما اظهر البحث الحديث – الى هذا المكان بدايةً من موطنه الأول الى الحجاز بطريق العراق ثم دومة الجندل، ويرجح ان هذا الخط قد تلقفته الأنبار من بعض الجهات في الشام ثم اوصلته الى الحيرة قائمةً بدور الوسيط ويرجح ايضًا ان دومة الجندل هي طريقة انتقال ذلك الخط الى مكة والمدينة.
برغم اختلاف الآراء في اصل الكتابة العربية الشمالية فقد كان هناك امر واحد متفق عليه وهو ان العرب لم يعرفوا الكتابة الى ان اتصلوا بالمدنية، وذلك بعد ان استوطنوا تلك الأطراف الغنية المحيطة بشبه الجزيرة في اليمن وسوريا ووادي الفرات وحوران ونجوع النبط، فتغيرت بعض القبائل العربية عن الطبيعة البدوية وشعرت نوعًا من الاستقرار في حياة جديدة بدلًا من حياة التنقل الدائم، فاتخذت اساليب الحضر في المعيشة مظاهر العمران.
اما من نزلوا على الشام فقد كانوا اكثر تلك القبائل تأثرًا بالحضارة وذلك لطول عهد احتكاك الشام بحضارة الرومان، اما في منطقة شمال الحجاز وخليج العقبة والمنطقة الممتدة منها الى دمشق نزلت بعض قبائل الاعراب المتصلين بعرب الجنوب، وكونت في موطنها الجديد وحدة جغرافية خاصة وصنعت لنفسها ثقافة خاصة بعيدة عن العرب الجنوبيين، واخذ بهذه النظرية بعض علماء الغرب المهتمين باللغة العربية الشمالية.
ابتدع هؤلاء العرب لأنفسهم خطًا مشتقًا من الخط الآرامي وعرف باسمهم (الخط النبطي) وكانت عاصمتهم البتراء مزدهرة لأكثر من خمسة قرون فأصبحت مركزًا تجاريًا عظيمًا على طريق سبأ اليمن والبحر المتوسط للقوافل العابرة، بالرغم من ان مملكة النبط قد اختفت في اوائل القرن الثاني الميلادي لكن طريقة كتابتهم ظلت باقية بعدهم واستخدمها الاعراب في اقصى شمال شبه الجزيرة لما يقارب من ثلاثة قرون، ومر عرب الاقاليم الشمالية بثلاثة مراحل في الكتابة:
الأولى: مرحلة انتقال الآرامية وكتابتها التي اتخذها الأنباط قبل اتخاذ خطهم الخاص بهم مربعة الحروف ومن سلالتها : التدمرية والعبرية.
الثانية: مرحلة الانتقال من الآرامي المربع الحروف الى النبطي
الثالثة: مرحلة النضج التي انتهى فيها الخط النبطي الى شكله المعروف المائل للاستدارة رغم ما يبدو في بعض اجزائه من التربيع.
وقد وجدت الكتابة النبطية طريقها من بلاد النبط الى بلاد العرب من خلال احد الطريقين:
بغض النظر عن كلا الطريقين فقد تمت رحلة الخط النبطي العربي بين القرن الرابع - تاريخ اقدم نقش عربي نبطي معروف - ونهاية القرن السادس الميلادي، في الوقت الذي ثبت الحجازيون الكتابة العربية على صورتها المعروفة لديهم قبل الإسلام بقليل.
تلك هي النظريات التي كانت متداولة عن اصل الخط العربي بداية من التوقيف وان الخط والكتابة العربية هي الهم من الله الى النظرية الجنوبية التي تعتبر الخط العربي مشتقًا من المسند الحِميَري الى النظرية الشمالية التي تزعم بأن ثلاثة من طيئ قاموا بقياس هجاء العربية على هجاء السريانية وعلموا الكتابة لأهل الأنبار ومنهم تعلمها اهل الحيرة ثم انتقلت الى مكة والطائف قبل الاسلام على يد بشر بن عبد الملك الكندي.
ظاهرة الكتابة مثلها كمثل تيارات الثقافة الاخرى تنتقل بصورة طبيعية من مكان الى اخر يصعب تمييز اشخاص الناقلين فيها، وانتهت النظريات بالحديثة والأكثر منطقية التي تؤكد بالنقوش المكتشفة ان الخط العربي مشتق من الكندية النبطية.